التشجيع الكروي بين الانتماء الحار وانحدار الانهيار:
لله در القائل:
يموت الفتى من عثرةٍ بلسانِه
****وليس يموتُ المَرْءُ مِن عثرة الرِّجْل
اضافة اعلان
فعثرتُه مِن فيه ترمي برأسه
***وعثرتُه بالرِّجْل تَبْرَا على مهَلِ
عزيزي القارئ في عالم كرة القدم، يختلط الحماس بالانتماء، وتتصاعد المشاعر مع كل هدف أو خسارة. لكن يبقى السؤال الجوهري: هل ما نشهده من تعصب في الملاعب هو تعبير عن ثقافة رياضية، أم أنه انعكاس لجهل متجذر في الوعي الجماهيري؟ هذا التساؤل يفتح الباب أمام فهم الفرق الجوهري بين التشجيع الواعي والتعصب الأعمى فالتعصب الكروي: جهل لا يُبرر حين يتحول التشجيع إلى سلوك عدواني، يرفض الآخر، ويغذي الكراهية، فإننا لا نتحدث عن ثقافة، بل عن جهل بقيم الرياضة. هذا النوع من المشجعين:
١- يسب ويشتم لاعبي الفرق المنافسة وجماهيرها.
٢- يروج للشائعات ويؤجج الاحتقان.
٣-يرفض تقبل الخسارة، ويبحث عن مبررات وهمية
٤- يخلط بين التنافس الشريف والعداونية الشخصية.
ومثل تلك الممارسات لا تعكس حباً حقيقياً للنادي، بل تعكس ضعفاً في الفهم، وانحداراً في السلوك، وتناقضاً مع جوهر الرياضة التي تقوم على الاحترام والتسامح.
والتعصب كـ "ثقافة مشوهة"قد يُقال إنه أصبح جزءاً من "ثقافة الملاعب"، لكن هذا توصيف مضلل. فالثقافة الحقيقية تُبنى على الوعي، بينما ما نراه هو نتاج:١- ضعف التوجيه الجماهيري من إدارات الأندية.
٢- إعلام رياضي متعصب يلهث خلف الإثارة ويغذي الانقسام.
٣- غياب العقوبات الرادعة التي تضبط السلوك الجماهيري.
٤- نقص التوعية في المدارس والنوادي حول الروح الرياضية.
فهذه العوامل مجتمعة ساهمت في تشكيل ثقافة مشوهة، لا ترفع من شأن الرياضة، بل تهدم قيمها وتُحولها إلى ساحة صراع.
أما عن الفرق بين التشجيع والتعصب
وفي المقابل فإن التشجيع الواعي يعني دعم الفريق دون إساءة للآخر ودون شتم المنافسين مع احترام الخصم وتقبل النتيجة ورفض الخسارة والبحث عن شماعات واهية والمشجع المنصف هو من يفصل بين الرياضة والمشاعر الشخصية فلايربط الكرامة بالفوز أو الخسارة لأن ربط الكرامة بالفوز والخسارة ليس تعزيزًا للروح الرياضية بل تغذية للكراهية والانقسام والتشجيع الحقيقي هو تعبير عن حب ناضج للنادي، لا يُفقد صاحبه احترامه للآخرين، ولا يُخرجه عن حدود اللياقة. أما التعصب، فهو انحياز أعمى، يُغلب العاطفة على العقل، ويُحول الرياضة إلى معركة وهمية.
ومن قرأ رواية "دون كيشوت" للكاتب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس، يجد أنها ليست مجرد قصة عن فارس واهم، بل هي مرآة ساخرة تعكس كيف يمكن للخيال أن يُغرق الإنسان في أوهام البطولة الزائفة. فالبطل، الذي ظن نفسه فارساً جوّالاً، انطلق ليحارب طواحين الهواء معتقداً أنها وحوش شريرة، بينما كان في الحقيقة يصارع فراغاً صنعه عقله المضلل. وفي نهاية المطاف، أدرك أنه كان أحمقاً، وأنه لم يحتكم لسلطان العقل، بل انقاد خلف خيالاته حتى سقط في عبثية الموقف.
هذا النموذج الأدبي ينطبق بشكل مذهل على حالة التعصب الكروي الأعمى التي تستشري في الكرة المصرية ، حين يتحول المشجع من محبٍ لفريقه إلى محاربٍ ضد كل من يخالفه، متخيلاً أن كل هتاف أو خسارة أو قرار تحكيمي هو مؤامرة تستهدفه شخصياً. فيصبح كـ"دون كيشوت"، يصارع خصوماً وهميين، ويخوض معارك لا وجود لها إلا في ذهنه، ويُلبس فريقه ثوب المظلومية المطلقة، بينما يشيطن الآخر بلا دليل أو منطق.
وأوجه الشبه بين دون كيشوت والمشجع المتعصب أياً كان لونه تتجسد في عده وجوه:
1-الانفصال عن الواقع: كما تخيّل دون كيشوت نفسه فارساً عظيماً، يتخيل المتعصب أن فريقه دائماً مظلوم، وأن كل خسارة سببها مؤامرة أو تحكيم منحاز.
2-رفض العقل والمنطق: دون كيشوت لم يحتكم للعقل، بل للخيال. كذلك المتعصب يرفض تقبل الهزيمة أو الاعتراف بأخطاء فريقه، ويغلب العاطفة على التحليل الموضوعي.
3-العداء الوهمي: فطواحين الهواء لم تكن خصوماً، لكنها بدت كذلك في عين الواهم. والمتعصب يرى في جماهير الفرق الأخرى أعداءً، لا مجرد منافسين في لعبة رياضية.
أيها المشجع الكريم، لا تكن كـ"دون كيشوت" في مدرجات الكرة. لا تصارع طواحين الهواء، ولا تحوّل التشجيع إلى معركة وهمية. فالفريق الذي تحبه لا يحتاج إلى تعصبك، بل إلى وعيك. والخصم الذي تواجهه ليس عدواً، بل شريك في صناعة المتعة الرياضية.
والرياضة ليست ساحة للبطولة الفردية الزائفة، بل ميدان للتنافس الشريف، والارتقاء الأخلاقي. فاحذر أن تقودك أوهام الانتماء إلى أن تكون أحمقاً في نظر العقلاء، كما كان دون كيشوت في نظر من حوله.
احكم العقل، وارتقِ بالتشجيع، قبل أن تتحول الملاعب إلى ساحات عبث لا تُنتج إلا الكراهية والانقسام.
عزيزي القارئ المنصف إذا انتقلنا لواقعنا الكروي رأينا العجب العجاب ففي مشهد مؤسف لا يمت للروح الرياضية بصلة، شهدت إحدى مباريات الدوري المصري هتافات مسيئة من قبل جماهير نادي الزمالك بحق لاعب الأهلي أحمد مصطفى "زيزو" ووالده، رغم أن المباراة لم يكن الأهلي طرفاً فيها. هذه الواقعة أثارت موجة من الغضب والاستنكار، كان أبرزها تعليق الإعلامي السعودي وليد الفراج، الذي وصف ما حدث بأنه "جريمة ضد الأخلاق والشرع والدين". ورغم أن الوصف يبدو قاسياً، إلا أن الوقائع تؤكد أنه لم يكن مبالغاً فيه.
لعدة أسباب أبرزها مايلي:
أولاً: التجاوز خارج السياق الرياضي؛ فالاعتداء اللفظي على لاعب لا يشارك في المباراة، وتوجيه الإهانات لعائلته، يمثل خروجاً صارخاً عن قواعد التنافس الشريف والرياضة في جوهرها، تقوم على الاحترام المتبادل، حتى في ظل التنافس الحاد. ومن ثم فإن ما حدث لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة، سواء كانت رياضية أو جماهيرية، بل هو سلوك مشين يسيء إلى صورة الكرة المصرية داخلياً وخارجياً.
ثانياً: غياب الردع المؤسسي من قبل اتحاد الكرة
فحتى لحظة كتابة هذا المقال، لم يصدر اتحاد الكرة المصري أي عقوبة تتناسب مع حجم التجاوز الذي وقع. وهذا الصمت المؤسسي يفتح الباب أمام مزيد من الانفلات، ويعطي انطباعاً بأن الإهانة يمكن أن تمر دون حساب. ولنا في الدوريات الأوروبية عظة حيث تحترم منظومتها الرياضية، فلا يُسمح للجماهير بتجاوز الخطوط الحمراء، خاصة عندما يتعلق الأمر بالخوض في الأعراض أو التحريض على الكراهية.
ثالثاً: مسؤولية الإدارة في تشكيل الوعي الجماهيري:
فمنذ سنوات، تعاني إدارة نادي الزمالك من أزمة في ضبط الخطاب الإعلامي والجماهيري. فبدلاً من أن تكون قدوة في تهذيب السلوك العام، ساهمت بعض الإدارات في ترسيخ ثقافة الشتائم والمظلومية، سواء عبر المنصات الإعلامية أو من خلال التبرير المستمر لتجاوزات الجماهير. هذا التراكم التاريخي خلق جيلاً من المشجعين تربى على فكرة أن السب والإهانة جزء من التشجيع، وأن الهجوم على المنافس هو تعبير عن الانتماء وقد تعدى هذا الأمر للأسف نطاق المدرجات إلى حد السب والقذف للنقاد والرياضيين والمعلقين المحايدين الذين ينتقدون سلوكيات الجماهير البيضاء.
رابعاً: عقدة المقارنة مع إدارة الأهلي:
ففي المقابل، تظهر إدارة النادي الأهلي نموذجاً أكثر انضباطاً في التعامل مع جماهيرها. ولم تُسجل حالات تحريض أو تبرير للتجاوزات، بل كانت هناك مواقف واضحة في رفض أي خروج عن النص. هذا الفارق في النهج الإداري ينعكس مباشرة على سلوك الجماهير، ويؤكد أن الانضباط يبدأ من القمة فالخطيب ومجلس إدارته يترفعون عن الصغائر ويسلكون المسلك القانوني دائما تجاه من يتجاوز في حقهم؛ مما أجبر الرئيس الأسبق لنادي الزمالك على الاعتذار للخطيب وطوي صفحة الخلافات للأبد كما أن الخطيب زار بنفسه مع وفد رسمي القلعة البيضاء كبادرة سلام ووئام بين القطبين الكبيرين لكن للأسف في المقابل لم يرد الطرف الآخر بنفس المبادرة الطيبة وصم أذنه عن هجوم جماهيره وخروجها عن النص في أكثر من مناسبة!!
خامساً: خطر التفكك المجتمعي:
فالانتماء الكروي في مصر لا ينفصل عن النسيج الاجتماعي؛ ذلك أن المشجع الزملكاوي قد يكون أخاً أو جاراً أو زميلاً في المدرسة أو الجامعة أوالشركة أو المصنع، وحين يتحول التشجيع إلى وسيلة للسب والقذف، فإننا لا نهدد فقط مستقبل الرياضة، بل نهدد وحدة الأسرة المصرية. وما حدث في المدرجات لم يكن مجرد هتافات، بل كانت شرارة يمكن أن تمتد إلى الشارع، وتزرع الفتنة بين الجماهير ويستغلها بعض المندسين والمزايدين على وحدة المجتمع لذا على مجالس إدارات الأندية المصرية واتحاد الكرة والمجلس الأعلى للإعلام اتخاذ خطوات صارمة تجاه من يخرج عن النص ويكدر السلم المجتمعي وما حادثة ملعب بورسعيد ببعيد فالشحن الجماهيري والخطاب العدائي أيها السادة تسبب في خروج الجماهير عن النص العرفي والأخلاقي والديني فكانت الفاجعة التي مازلنا نعاني منها إلى حين .

وفي الختام أناشد جماهير الزمالك خاصة والكرة المصرية عامة:
أيها الجمهور العزيز، إن حب النادي لا يعني تبرير الخطأ، ولا يمنح أحداً الحق في انتهاك كرامة الآخرين. فالكرة المصرية تمر بمنعطف خطير، وإذا استمرت لغة الشتائم والتحريض، فإننا سنصحو على كارثة أخلاقية واجتماعية لا تُحمد عقباها. لا تسمحوا للانتماء أن يتحول إلى أداة للهدم، ولا تتركوا المدرجات تتحول إلى ساحات للعداء. الكرة تجمع ولا تفرق، تبني ولا تهدم. فاحذروا أن يكون التعصب هو أول مسمار في نعش الرياضة المصرية وتعالوا جميعاً إلى كلمة سواء وليتكاتف لاعبو الأهلي والزمالك معاً في تحية جماهيرهما مثلما حدث في الثمانينيات مع محمود الخطيب وحسن شحاته وليت فريق الأهلي يلعب في استاد الإسماعيلية في ظل التقارب الملموس بين جماهير الفريقين بعد موقف إدارة الأهلي التاريخي ومساندته للإسماعيلي بشأن رفض قرار هبوط الأندية الجماهيرية وعلى رأسها الإسماعيلي. وليت الأهلي يلعب في استاد بورسعيد والمصري يلعب بالمثل في استاد القاهرة؛ فهيا معاً للتشجيع الرياضي النزيه واللفظ المهذب الوجيه والابتعاد عن كل سفيه وكريه ولله در الشافعي حين قال:
الحكمة في شعر الإمام الشافعي:
إِذا رُمتَ أَن تَحيا سَليماً مِنَ الرَدى
****وَدينُكَ مَوفورٌ وَعِرضُكَ صَيِّنُ
فَلا يَنطِقَن مِنكَ اللِسانُ بِسَوأَةٍ
***فَكُلُّكَ سَوءاتٌ وَلِلناسِ أَلسُنُ
وَعَيناكَ إِن أَبدَت إِلَيكَ مَعائِباً
***فَدَعها وَقُل يا عَينُ لِلناسِ أَعيُنُ
وَعاشِر بِمَعروفٍ وَسامِح مَنِ اِعتَدى
* وَدافِع وَلَكِن بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ….
وكفانا مشاحنات ومزايدات تضر باللحمة الوطنية، فالأسرة المصرية الواحدة بها الأهلاوي والزملكاوي والإسماعلاوي وكلهم أبناء أسرة واحدة ومجتمع واحد ونسيج واحد شاء من شاء وأبى من أبى فاستقيموا يرحمكم الله.
اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد.
دكتور/ أحمد محمد الشربيني