A A A
أحمد الشربيني

أحمد الشربيني


في مسرح المنافسات العربية، حيث تتجسد معاني الشجاعة والانتماء، جاءت نتائج البطولة العربية لتقدم لنا درساً مؤثراً في فلسفة الرياضة وجوهرها. فلم يكن مفاجئاً أن يحلق "منتخب النشامى" الأردني إلى المباراة النهائية جراء فوزه على شقيقه السعودي، بعد أداء مشرف ليقرع جرس الإنذار ويذكرنا دوماً بأن الكرة في أساسها لعبة قوامها الروح والإرادة والعزيمة قبل أن تكون تجارة تسويقية وأرقاماً تروجية.اضافة اعلان

فها هي الكرة السعودية، على الرغم من دوري "روشن" وزخمه التسويقي والإعلامي، والذي تحول – شكلاً ومضموناً – إلى حلبة تستقطب النجوم الأجانب ممن هم على أعتاب الاعتزال والتشطيب على حساب اللاعبين الوطنيين المحليين، مماجعل النتائج تتراجع على مستوى المنتخب الأول.

والسبب واضح للعيان فقد أخذت العناصر الأجنبية المستوردة كبن زيما وكريستانو تزاحم أبناء السعودية في مراكز حيوية بأنديتهم، حتى كادت تغيب الهوية المحلية، فجاءت النتائج على أرض الملعب بالبطولة العربية كترجمة صادقة لهذا الانزياح الخطير.

وهذا المشهد يعيد نفسه، ولكن بثوب مختلف، في التجربة القطرية. فمع كل الزخم الاستثماري والنجوم العالميين في دوريها، لم يستطع منتخبها أن يحقق أحلام جماهيره، وسقط أمام إرادة المنتخب الفلسطيني، الذي برهن بأن العزيمة والفداء الوطنيين يمكنهما أن يهزما أي موازنات مادية وتجنيسات وهمية. وكأن البطولة تهمس في آذاننا: "أبناء الأوطان هم فرس الرهان".

ولا ينفصل الحال الكروي في مصرنا الحبيبة عن هذه المعادلة المؤلمة والحقيقة القاتمة. فمنتخبنا الوطني، ذو التاريخ العريق، وجد نفسه عاجزاً أمام شقيقه الأردني، وليس السبب نقصاً في الموهبة، بل هو نتيجة طبيعية لسياسة كروية تعيث في الداخل عشوائية وتبث روح العصبية إما لانعدام الرؤية أو غياب الضمير.


لذا تحولت أنديتنا العريقة، وعلى رأسها قطبا الكرة المصرية، إلى ورش لاستيراد المواهب من كل حدب وصوب عربياً وإفريقياً ، إما لفقدان الرؤية الواضحة أو لغياب الكوادر الجديرة بتولي دفة الرياضة.

وهذا بدوره انعكس سلباً على الناتج المحلي من المواهب ومدى جاهزية العناصر الكروية المصرية الصالحة لتمثيل المنتخب المصري.

وإلا فأين هوالمهاجم المصري السوبر الذي كان يجب أن يخلف العمالقة منذ اعتزال عماد متعب وبلال وعمر زكي؟ الإجابة بالطبع لا لأننا وأدنا المواهب في مهدها ووساعدنا في تهمشيها وتسريحها وهدمها.


فمثلاً عملاق القارة النادي الأهلي، رمز الكرة المصرية على الصعيد الهجومي نراه يتعثر في رهاناته وتخيب دوماً تعاقداته؛جراء تجارب أجنبية عديدة لم تثبت جدارتها بارتداء رداء "الفرسان الحمر" بكل ما يحمله من أمجاد وطموحات وليست تجربة (موديست) الفاشلة ببعيدة عن عقولنا وأعيننا. وتبقى تجربة وسام أبو علي استثناءً فريدًا يؤكد صدق مانقول!! نعم الأهلي قلعة البطولات وينعم بعقلية إدارية تجلب الإنجازات لكنه لايفكر في بطولاته وإنجازاته أولاً وثانياً وثالثاً حتى صار بعض الإعلاميين يرددون مقولة(( الأهلي هو من يشرف مصر)) وعبارة((لولا الأهلي ما سمع العالم بالكرة المصرية!!))



وفي الجانب الآخر، نطالع أندية كالزمالك وبيراميدز وسيراميكا والبنك الأهلي يتبعون سياسة الاعتماد شبه الكلي على أعمدة أجنبية، مما يضيق الخناق بشدة على المواهب المحلية الواعدة، ويحرمها من فرص النضج والظهور.
فالبطولات المحلية والقارية أيها القارئ العزيز، في نظر هذه الأندية الكبرى، أصبحت غاية تبرر أي وسيلة، حتى لو كان الثمن هو تهميش اللاعب المصري، وإعاقة صعود نجومه، وتمزيق نسيج الفريق الوطني. بل إ ن خروج الأهلي أمام بطل البرازيل بركلات الجزاء الترجيحية فاق حزناً وأسى إذا ماقورن بخروج المنتخب المحلي أمام نشامى الأردن في البطولة العربية وهذا يعكس العقلية الأندية والجماهير في مصر الآن فأولوية الانتماء باتت للنادي وشعاره وليس لنداء المنتخب الوطني ورجاله وتحقيق بطولاته و آماله فياللعجب من تردي الوضع الكروي والعقل الجمعي وتناقض حاله!!!


لذا أرى أن الحل لا يكمن في الاستمرار في نفس الدائرة المفرغة، بل في العودة إلى المنبع الأصيل والاهتمام بهذا الجيل. مما يستوجب علينا أن ننقب من جديد في حواري مصر ومراكز شبابها، لنفحص بعناية ونبحث بحكمة ودراية عن مواهب صغارنا وفتياننا، كي نعيد بناء فرق الناشئين والمنتخبات السنية الواعدة على أسس فنية راسخة واستراتيجيات واضحة كي لانقع في الأسطوانة الفاضحة التي عافتها الآذان وضجت منها الأذهان ((ذهبنا للتمثيل المشرف)) .


فمصر ياسادة- بكل تأكيد - ولادة وقادرة على توليد أجيال من المبدعين والموهوبين. وليس تاريخ منتخب "الساجدين" البطل الأفريقي الرصين لثلاث مرات متتالية ببعيد، فهو النسيج المحلي المتكامل الذي ستر سمعة العرب ورفع اسم مصر و أحرج الكبار فعلم البرازيل فنون الكرة من جديد وقهر دفاع إيطاليا الحديد بطل العالم آنذاك في كأس القارات.


وإني على ثقة بأن تلك الأرض ستُخرج لنا من بين صفوف ناشئينا من يتحلى بحكمة وفن الخطيب، ودهاء وهندسة شحاته، وموهبة أبو زيد الخلاقة، وخفة مصطفى عبدة الدفاقة، وروح حسام حسن القتالية ، ومهارة تريكة السحرية، ورشاقة حازم إمام الفنية، وحنكة الكاس الذكية، وسرعة بركات المكوكية، وجسارة متعب الهجومية، وحرفية محمد صلاح العالمية. فكم أثبت هؤلاء الموهوبون أن العبرة ليست بالاسم الرنان أو بالعقد الضخم ، بل كان الرهان دوماً على القلب الجسور والموهبة الأصيلة التي تعتز بانتمائها وشرف ولائها.



أعزائي قراء نجم الجماهير إن ميدان البطولة العربية في نهاية المطاف، هو للشجعان الحقيقيين الذين يدافعون عن راية الوطن، لا للمرتزقة من ذوي الأسماء الرنانة أو لمن يغامرون بمكانة بلدانهم ويقامرون به جراء خلافات شخصية وصراعات فنية وولاءات وتربيطات خفية ونوازع وأطماع مادية أو أمراض نفسية ونرجسية.

فلقد رفع من قبل أبناء فريق مصر إبان الجيل الذهبي لمنتخب الساجدين شعاراً خالداً عنوانه: "الميدان للشجعان.. لا للاسم الرنان". ومن منا ينسى المعلم شحاته وموقفه من ميدو واستبداله الشهير وإشراكه لعمر زكي اللاعب المحلي آنذاك ليثبت صحة نهجه التدريبي وفلسفته الوطنية!!


وإنه لشعار ينبغي أن يعود اليوم نبراساً لكل إدارة، وكل ناد، وكل مسئول، وكل مشجع. فالمجد والفوز لا يُشترى بالعملة الصعبة، أو عدد المحترفين أو ترضية المدللين واسترضاء الغاضبين بل يُبنى بالإرادة الصلبة، والموهبة الأصيلة، والرؤية الفنية العلمية وقبل هذا وذاك سلاح الانتماء الذي لا يُقدر بثمن.

فهل نعي الدرس الأردني قبل فوات الأوان؟